فصل: رسالة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: كتاب العلم **


 رسالة

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ‏.‏

فضيلة الشيخ‏:‏ محمد بن صالح العثيمين حفظه الله

نرجو من فضيلتكم التكرم بإفادتنا عما إذا كان تحديد موعد منتظم أسبوعيًا لإلقاء محاضرة دينية أو حلقة علم، بدعة منهيًا عنها باعتبار طلب العلم عبادة، والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يكن يحدد موعدًا لهذه العبادة‏.‏ وتبعًا لذلك هل إذا اتفق مجموعة من الأخوة على الالتقاء في المسجد ليلة محددة كل شهر لقيام الليل، هل يكون ذلك بدعة مع إيراد الدليل على ذلك‏؟‏ وجزاكم الله خيرًا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته‏.‏

فأجاب فضيلته بقوله‏:‏

بسم الله الرحمن الرحيم

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ‏.‏

إن تحديد يوم معين منتظم لإلقاء محاضرة أو حلقة علم ليس ببدعة منهي عنها، بل هو مباح كما يقرر يوم معين في المدارس والمعاهد لحصة الفقة أو التفسير أو نحو ذلك‏.‏ ولا شك أن طلب العلم الشرعي من العبادات لكن توقيته بيوم معين تابع لما تقتضيه المصلحة، ومن المصلحة أن يعين يوم لذلك حتى يا يضطرب الناس‏.‏ وطلب العلم ليس عبادة موقتة بل هو بحسب ما تقتضيه المصلحة والفراغ‏.‏ لكن لو خص يومًا معينًا لطب العلم باعتبار أنه مخصوص لطلب العلم وحده فهذا هو البدعة‏.‏

وأما اتفاق مجموعة على الالتقاء في ليلة معينة لقيام الليل فهذا بدعة؛ لأن إقامة الجماعة في قيام الليل غير مشروعة إلا إذا فعلت أحيانًا وبغير قصد كما جرى للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مع عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ‏.‏

كتبه محمد الصالح العثيمين

في 28/5/ 1415هـ‏.‏

104ـ وسئل فضيلة الشيخ ـ أعلى الله درجته في المهديين ـ‏:‏ عما يحصل من البعض من الوقوع في أعراض العلماء الربانيين والقدح فيهم وغيبتهم وفقكم الله تعالى‏؟‏

فأجاب فضيلته بقوله‏:‏ لا شك أن الوقوع في أعراض أهل العلم المعروفين بالنصح، ونشر العلم والدعوة إلى الله تعالى، من أعظم أنواع الغيبة التي هي من كبائر الذنوب‏.‏

والوقيعة في أهل العلم أمثال هؤلاء ليست كالوقيعة في غيرهم؛ لأن الوقيعة فيهم تستلزم كراهتهم، وكراهة ما يحملونه، وينشدونه من شرع الله ـ عز وجل ـ فيكون في التنفير عنهم تنفير عن شرع الله ـ عز وجل ـ وفي هذا من الصد عن سبيل الله ما يتحمل به الإنسان إثمًا عظيمًا وجرمًا كبيرًا، ثم إنه يلزم من إعراض الناس عن أمثال هؤلاء العلماء، أن يلتفتوا إلى قوم جهلاء يضلون الناس بغير علم؛ لأن الناس لابد لهم من أئمة يأتمون بهم ويهتدون بهديهم، فإما أن يكونوا أئمة يهدون بأمر الله وإما أن يكونوا أئمة يدعون إلى النار، فإذا انصرف الناس عن أحد الجنسين مالوا إلى الجنس الآخر‏.‏

وعلى المرء الواقع في أعراض أمثال هؤلاء العلماء أن ينظر في عيوب نفسه، فإن أول عيب يخدش به نفسه، وقوعه في أعراض هؤلاء العلماء، مع ما عنده من العيوب الأخرى التي يبرأ منها أهل العلم ويبرؤن أنفسهم من الوقيعة فيه من أجلها‏.‏

* * *

105ـ وسئل فضيلة الشيخ ـ وفقه الله تعالى ـ عن المسجلات الصوتية التي يُسجل فيها العالم، وهل هناك حرج من استعمالها‏؟‏

فأجاب فضيلته بقوله‏:‏ لا شك أن المسجلات الصوتية من نعم الله تعالى، إذا كان يسجل بها ما يفيد المسلم في دينه ودنياه، وأنه يحصل بها علم كثير مفيد، إذا كان من أهل العلم المعروفين بالتحقيق والأمانة، وهي بمنزلة الكتب المؤلفة، ومن المعلوم أنه لا أحد ينهى عن تأليف الكتب إذا كانت من أهل التحقيق والأمانة، وهي لا تصد عن كتاب الله تعالى وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بل هي بيان وتفسير لكلام الله ورسوله ونشر لما تضمنه الكتاب والسنة من مواعظ تشتمل على أحاديث وآثار ضعيفة أو مكذوبة لقصد الترغيب أو الترهيب أو كليهما، والذين يسمعونها ممن لا معرفة لهم بالصحيح والضعيف يغترون بها ويأخذون بها مسلمة من غير بحث فيها ولا سؤال عنها، فالله المستعان‏.‏

* * *

106ـ وسئل فضيلة الشيخ ـ وفقه الله تعالى ـ‏:‏ متى ينكر على المخالف في المسائل الخلافية التي بين أهل العلم‏؟‏

فأجاب فضيلته بقوله‏:‏ مسائل الخلاف نوعان‏:‏

النوع الأول نوع يكون الدليل فيها واضحًا لا يمكن فيه الاجتهاد، فهذه ينكر على المخالف فيها لمخالفة النص وذلك كحلق اللحية وإسبال الثوب أسفل من الكعبين، والتفرق في دين الله، وغير ذلك‏.‏

لكن لا يجعل ذلك وسيلة للتشاتم والتباغض، لا سيما مع العلم بحسن نية المخالف، بل تُعالج الأمور بحكمة حتى يحصل الوفاق‏.‏

والنوع الثاني‏:‏ يكون فيها الدليل غير واضح، إما لخفاء ثبوت الدليل، أو الدلالة أو وجود شبهة مانعة، وغير ذلك، فهذا لا ينكر فيه على المخالف؛لأن قول أحد المختلفين ليس حجة على الآخر، وأمثلة هذا كثيرة‏.‏

* * *

107ـ وسئل فضيلة الشيخ‏:‏ إذا أراد الإنسان حفظ القرآن فبماذا تنصحونه‏؟‏

فأجاب فضيلته بقوله‏:‏ الذي ننصحه به أن يبدأ من البقرة، إلا إذا كان حفظه من المفصل أسهل له فليكن من المفصل؛ لأن بعض الناس يسهل عليه الحفظ من المفصل من أجل قصر سوره وآياته وكونه يسمعه من الأئمة في المساجد كثيرًا، فإذا كان هذا سهل عليه فليبدأ بما هو أسهل، وننصحه أيضًا بتعاهد حفظه كما أمر بذلك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وننصحه أيضًا أن يهتم بما كان حفظه أكثر من اهتمامه بكثرة الحفظ؛ لأن العناية بالموجود أولى من العناية بالمفقود‏.‏

* * *

 رسالة

حول الاجتماع والائتلاف وترك التفرق والاختلاف

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد‏:‏

فإن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه العظيم‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون‏}‏‏.‏‏[‏آل عمران، الآيتان 102، 103‏]‏‏.‏ فأمرنا الله ـ سبحانه وتعالى ـ أن نذكر نعمة الله علينا، إذا كنا أعداء فألف بين قلوبنا، فأصبحنا بنعمته إخوانا، فعلينا جميعًا أن نشكر الله على هذه النعمة وأن نحرص كل الحرص على أن تكون كلمتنا واحدة‏.‏

لأننا بذلك نكون أمة قوية مرموقة، وأما إذا تنازعنا وتفرقنا فإنه بلا شك سوف نفشل وتذهب ريحنا، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏46‏]‏

وإن الواجب على طلبة العلم خاصة، وعلى المسلمين عامة أن يدعوا الأحقاد والأضغان وأن يكون هدفهم واحد ودعواهم واحدة، وأن لا يظهروا الشماتة بأنفسهم بالتفرق والتنازع والتنابز بالألقاب والكراهية والبغضاء، فإن ذلك أعظم سلاح فتاك يبطل هيبة المسلمين، ويوجب أن يتسلط عليهم أعداؤهم فيقفون متفرجين عليهم ينظرون إليهم وهم يتنازعون ويتخاصمون ويقولون كفينا أن نفسد بين المسلمين، وأنه يجب على كل واحد منا أن يعذر أخاه فيما طريقه الاجتهاد، فإن اجتهاد كل واحد ليس حجة على الآخر، والحجة ما قاله الله ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإذا كان الخلاف سائغًا لم يظهر فيه العصيان والتعصب للنفس، فإن الواجب أن تتسع صدورنا له، ولا مانع حينئذ من المناقشة الهادئة التي يُراد بها التوصل إلى الحق، فإن هذا هو طريق الصحابة، وأما أن نتخذ من الخلاف السائغ مثارًا للكراهية والبغضاء والتحزب، فإن ذلك خلاف طريق السلف الصالح، ولينظر الإنسان وليتفكر في هذه الشريعة الإسلامية فإنها جاءت بما يوجب الألفة والمحبة، ونهت عن كل ما يوجب التفرق والبغضاء، فكثير من العبادات يشرع فيها الاجتماع كالصلوات، وكثير من الأشياء نهى الله عنها لأنها توجب العداوة والبغضاء كالبيع على بيع المسلم، والخطبة على خطبته وغير ذلك‏.‏

فنصيحتي لإخواني أن يتقوا الله تعالى في أنفسهم وفي أمتهم، وأن لا يتنازعوا فيفشلوا وتذهب ريحهم‏.‏

وأسأل الله لنا جميعًا التوفيق لما يحب ويرضى‏.‏

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين‏.‏

حرر في 29/3/1416هـ‏.‏

108ـ وسئل فضيلة الشيخ‏:‏ هل يجوز استفتاء أكثر من عالم‏؟‏

وفي حالة اختلاف الفتيا هل يأخذ المستفتي بالأيسر أم بالأحوط‏؟‏

فأجاب فضيلته بقوله‏:‏ لا يجوز للإنسان إذا استفتى عالمًا واثقًا بقوله أن يستفتي غيره؛ لأن هذا يؤدي إلى التلاعب بدين الله وتتبع الرخص، بحيث يسأل فلانًا، فإن لم يناسبه سأل الثاني، وإن لم يناسبه سأل الثالث وهكذا‏.‏

وقد قال العلماء‏:‏ ‏(‏من تتبع الرخص فسق‏)‏، لكن أحيانًا يكون الإنسان ليس عنده من العلماء إلا فلانًا مثلًا، فيسأله من باب الضرورة، وفي نيته أنه إذا التقى بعالم أوثق منه في علمه ودينه سأله، فهذا لا بأس به، أن يسأل الأول للضرورة، ثم إذا وجد من هو أفضل سأله‏.‏

وإذا اختلف العلماء عليه في الفتيا أو فيما يسمع من مواعظهم ونصائحهم مثلًا، فإنه يتبع من يراه إلى الحق أقرب في علمه ودينه، فإن تساوى عنده الرجلان في العلم والدين، فقال بعض العلماء‏:‏ يتبع الأحوط وهو الأشد، وقيل يتبع الأيسر، وهذا هو الصحيح؛ أنه إذا تعادلت الفتيا عندك، فإنك تتبع الأيسر؛ لأن دين الله ـ عز وجل ـ مبني على اليسر والسهولة، لا على الشدة والحرج‏.‏

وكما قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ‏:‏ ‏(‏ما خُيرّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثمًا‏)‏ ‏(‏1‏)‏‏.‏ ولأن الأصل البراءة وعدم التأثيم والقول بالأشد يستلزم شغل الذمة والتأثيم‏.‏

* * *

109ـ وسئل فضيلة الشيخ ـ وفقه الله تعالى ـ‏:‏ قلتم إن مذهب أهل السنة والجماعة هو مذهب الإمام أحمد، فكيف حكمنا على المذاهب الثلاثة الباقية‏؟‏

فأجاب فضيلته بقوله‏:‏ لا ‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ ما أظن إننا قلنا هذا باعتبار أن المذاهب الثلاثة ليست على مذهب أهل السنة، لكن الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ معروف بين أهل العلم إنه إمام أهل السنة وأنه قام بالدفاع عن السنة قيامًا لم يقمه أحد فيما نعلم‏.‏ ومحنته مع المأمون ومن بعده مشهورة، وإلا فلا شك أن أئمة الإسلام ولله الحمد كلهم على خير وعلى حق، ولكن ذلك لا يعني أن نبرئ كل واحد منهم من الخطأ‏.‏ بل كل واحد منهم قد يقع منه الخطأ بل الإمام أحمد نفسه قد يصرح بالرجوع عن القول وإن كان قد قاله من قبل كما في قوله في طلاق السكران حتى تبيّنته، يعني فتبين له أنه لا يقع؛ لأنه إذا أوقعه أتى خصلتين‏:‏ تحريم هذه الزوجة على زوجها الذي طلقها وحلها لغيره، وإذا قال بعدم الوقوع أتى خصلة واحدة وهي حلها لهذا الزوج الذي لم يتحقق بينونتها منه‏.‏

* * *

110ـ وسئل فضيلته ـ أعلى الله درجته في المهديين ـ‏:‏ ما رأي فضيلتكم فيمن ينفّر من قراءة كتب الدعاة المعاصرين ويرى الاقتصار على كتب السلف الأخيار وأخذ المنهج منها‏؟‏

ثم ما هي النظرة الصحيحة أو الجامعة لكتب السلف ـ رحمهم الله ـ وكتب الدعاة المعاصرين والمفكرين‏؟‏

فأجاب فضيلته بقوله‏:‏ أرى أن أخذ الدعوة من كتاب الله وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فوق كل شيء، وهذا رأينا جميعًا بلا شك، ثم يلي ذلك ما ورد عن الخلفاء الراشدين وعن الصحابة وعن أئمة الإسلام فيمن سلف‏.‏

أما ما يتكلم به المتأخرون والمعاصرون، فإنه يتناول أشياء حدثت هم بها أدرى، فإذا اتخذ الإنسان من كتبهم ما ينتفع به في هذه الناحية فقد أخذ بحظ وافر ونحن نعلم أن المعاصرين إنما أخذوا ما أخذوا من العلم ممن سبق فلنأخذ نحن مما أخذوا منه، ولكن أمورًا قد استجدت هم بها أبصر منا، ثم إنها لم تكن معلومة لدى السلف بأعيانها، ولهذا أرى أن يجمع الإنسان بين الحسنيين، فيعتمد أولًا على كتاب الله وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وثانيًا على كلام السلف الصالح من الخلفاء الراشدين والصحابة وأئمة المسلمين، ثم على ما كتبه المعاصرون الذين يكتبون عن أشياء حدثت في زمانهم لم تكن معلومة بأعيانها عند السلف‏.‏

* * *

111ـ وسئل فضيلته ـ غفر الله له ـ‏:‏ هناك بعض طلبة العلم يبدأ طلب العلم بكتب الحديث ويعرض عن المتون الفقهية وحجتهم بأن المتون الفقهية خالية من أدلة الكتاب والسنة فهل هذا صحيح‏؟‏

فأجاب فضيلته بقوله‏:‏ الذي أرى أن يبدأ الطالب قبل كل شيء بفهم القرآن الكريم؛ لأن الله تعالى قال‏:‏ ‏{‏كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ‏}‏ ‏[‏صّ‏:‏29‏]‏ ولأن القرآن لا يحتاج إلى أي عناء في ثبوته؛ لأنه ثابت بالتواتر، لكن السنة فيها الصحيح وفيها الحسن وفيها الضعيف وفيها الموضوع فهي تحتاج إلى عناء، ثم هي أيضًا تحتاج إلى جمع أطرافها، فقد يبلغ الإنسان حديث عن الرسول عليه الصلاة والسلام يكون له مخصص لعمومه، أو مقيد لإطلاقه، أو يكون هذا الحديث منسوخًا وهو لا يعلم، ولهذا نجد كثيرًا ممن زعموا أنهم مستندون على الحديث يخطئون في فهمه أو في طريقة الاستدلال به‏.‏ ولا شك أن السنة عن النبي عليه الصلاة والسلام أصل من الأصول، فهي كالقرآن في وجوب العمل بها إذا صحت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏.‏

وأما جوابه بأن المتون خالية مما قال الله وقال رسوله فنعم، أكثر المتون الفقهية ليس فيها الدليل، ولكن توجد الأدلة في شروحها، فليست خالية من الأدلة باعتبار شروحها التي تحلل أغراضها وتبين معانيها‏.‏

والذي أرى أن يكون الإنسان بادئًا‏:‏

أولًا‏:‏ بكتاب الله ـ عز وجل ـ ‏.‏

وثانيًا‏:‏ بالسنة الثابتة عن رسوله الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ‏.‏

وثالثًا‏:‏ بكتب الفقه المبنية على الكتاب والسنة‏.‏

لأن هذه تضبط تصرفه وتصحح فهمه‏.‏

لكن هل الأولى أن يحفظ متنًا من متون الفقه أو متنًا مختصرًا من الحديث‏؟‏

الجواب‏:‏ الأولى أن يحفظ متنًا مختصرًا من الحديث كعمدة الأحكام، وبلوغ المرام، ولكن لا يدع الاستئناس بكلام أهل العلم وأهل الفقه‏.‏

* * *

112ـ وسئل الشيخ ـ غفر الله له ـ‏:‏ بعض طلبة العلم يكتفون بسماع أشرطة العلماء من خلال دروسهم فهل تكفي في تلقي العلم‏؟‏ وهل يعتبرون طلاب علم‏؟‏ وهل يؤثر في معتقدهم‏؟‏

فأجاب فضيلته بقوله‏:‏ لا شك أن هذه الأشرطة تكفيهم عن الحضور إلى أهل العلم إذا كان لا يمكنهم الحضور، وإلا فإن الحضور إلى العلماء أفضل وأحسن وأقرب للفهم والمناقشة، لكن إذا لم يمكنهم الحضور فهذا يكفيهم‏.‏

ثم هل يمكن أن يكونوا طلبة علم وهم يقتصرون على هذا‏؟‏

نقول‏:‏ نعم يمكن إذا اجتهد الإنسان اجتهادًا كثيرًا كما يمكن أن يكون الإنسان عالمًا إذا أخذ العلم من الكتب، لكن الفرق بين أخذ العلم من الكتب والأشرطة وبين التلقي من العلماء مباشرة، أن التلقي من العلماء مباشرة أقرب إلى حصول العلم؛ لأنه طريق سهل تمكن فيه المناقشة بخلاف المستمع أو القارئ فإنه يحتاج إلى عناء كبير في جمع أطراف العلم والحصول عليه‏.‏

وأما قول السائل‏:‏ هل يؤثر الاكتفاء بالأشرطة في معتقدهم، فالجواب‏:‏ نعم يؤثر في معتقدهم إذا كانوا يستمعون إلى أشرطة بدعية ويتبعونها، أما إذا كانوا يستمعون إلى أشرطة من علماء موثوق بهم، فلا يؤثر على معتقداتهم، بل يزيدهم إيمانًا ورسوخًا واتباعًا للمعتقد الصحيح‏.‏

* * *

113وسئل فضيلة الشيخ‏:‏ ما رأي فضيلتكم فيمن صار ديدنهم تجريح العلماء وتنفير الناس عنهم والتحذير منهم، هل هذا عمل شرعي يثاب عليه أو يعاقب عليه‏؟‏

فأجاب فضيلته بقوله‏:‏ الذي أرى أن هذا عمل محرَّم، فإذا كان لا يجوز للإنسان أن يغتاب أخاه المؤمن وإن لم يكن عالمًا فكيف يسوغ له أن يغتاب إخوانه العلماء من المؤمنين‏؟‏ والواجب على الإنسان المؤمن أن يكف لسانه عن الغيبة في إخوانه المؤمنين‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏12‏]‏ وليعم هذا الذي ابتلي بهذه البلوى أنه إذا جرَّح العالم فسيكون سببًا في رد ما يقوله هذا العالم من الحق، فيكون وبال رد الحق وإثمه على هذا الذي جرح العالم؛ لأن جرح العالم في الواقع ليس جرحًا شخصيّا بل هو جرح لإرث محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ‏.‏

فإن العلماء ورثة الأنبياء فإذا جرح العلماء وقدح فيهم لم يثق الناس بالعلم الذي عندهم وهو موروث عن رسوله الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحينئذٍ لا يتقون بشيء من الشريعة التي يأتي بها هذا العالم الذي جُرح‏.‏ ولست أقول إن كل عالم معصوم، بل كل إنسان معرض للخطأ، وأنت إذا رأيت من عالم خطأ فيما تعتقده، فاتصل به وتفاهم معه، فإن تبين لك أن الحق معه وجب عليك اتباعه، وإن لم يتبين لك ولكن وجدت لقوله مساغًا وجب عليك الكف عنه، وإن لم تجد لقوله مساغًا فحذر من قوله؛ لأن الإقرار على الخطأ لا يجوز، لكن لا تجرحه وهو عالم معروف مثلًا بحسن النية، ولو أردنا أن نجرح العلماء المعروفين بحسن النية لخطأ وقعوا فيه من مسائل الفقه، لجرحنا علماء كبارًا، ولكن الواجب هو ما ذكرت وإذا رأيت من عالم خطأ فناقسه وتكلم معه، فإما أن يبتين لك أن الصواب معه فتتبعه أو يكون الصواب معك فيتبعك، أو لا يتبين الأمر ويكون الخلاف بينكما من الخلاف السائغ، وحينئذ يحب عليك الكف عنه وليقل هو ما يقول ولتقل أنت ما تقول‏.‏

والحمد لله، الخلاف ليس في هذا العصر فقط، الخلاف من عهد الصحابة إلى يومنا، وأما إذا تبين الخطأ ولكنه أصر انتصارًا لقوله وجب عليك أن تبين الخطأ وتنفر منه، لكن لا على أساس القدح في هذا الرجل وإرادة الانتقام من؛ لأن هذا الرجل قد يقول قولًا حقًا في غير ما جادلته فيه‏.‏

فالمهم أنني أحذر إخواني من هذا البلاء وهو تجريح العلماء والتنفير منهم، وأسأل الله لي ولهم الشفاء من كل ما يعيبنا أو يضرنا في ديننا ودنيانا‏.‏

* * *

114ـ وسئل فضيلة الشيخ ـ حفظه الله تعالى ورعاه ـ‏:‏ ما هي نصيحتكم لمن ابتدأ في طلب العلم‏؟‏ بأي شيء يبدأ‏؟‏

فأجاب فضيلته بقوله‏:‏ عندي أن أهم شيء في طلب العلم أن يتعلم الإنسان تفسير كلام الله ـ عز وجل ـ؛ لأن كلام الله هو العلم كله، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ من الآية89‏]‏ وكان الصحابة لا يتجاوزون عشر آيات حتى يتعلموها وما فيها من العلم والعمل، فتعلموا القرآن والعلم والعمل جميعًا، هذا أهم شيء عندي، وعلى هذا فيبدأ الشاب ولا سيما الصغار من الشباب بحفظ القرآن، والآن حفظ القرآن ـ ولله الحمد ـ متيسر، ففي المسجد حلقات يحفظون القرآن، وعليهم أمناء من القراء يحفظونهم القرآن، ثم إنه في هذه المناسبة أ‏,‏د من إخواني الأغنياء أن يولوا أهمية لهذه الحلقات بتشجيعهم ماديًّا ومعنويًّا، وليعلموا أنهم إذا عانوا في تعليم القرآن فإن لهم مثل أجر المعلم، لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏من جهز غازيًا فقد غزى‏)‏ ‏[‏رواه البخاري، كتاب الجهاد، باب‏:‏ فضل من جهّز غازياً أو خلفه بخير، ومسلم ، كتاب الإمارة، باب‏:‏ فضل إعانة الغازي في سبيل الله ‏.‏

‏]‏ ‏.‏ ولأن الله تعالى قال‏:‏ ‏{‏وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ من الآية2‏]‏‏.‏ ولم يأمرنا بالتعاون إلا أن لنا أجرًا، لذا أحث إخواني الأغنياء على دعم هذه الحلقات بالمال سواء كان المال نقدًا أو كان عقارات توقف لهذه الحلقات تنفعه بعد موته‏.‏ وأحث أيضًا القائمين على الحلقات على أن يهتموا بإنشاء ما يدر على هذه الحلقات في المستقبل؛ لأن التبرع المقطوع ينتهي، لكن إذا حرصوا على أن يؤسسوا منشآت تؤجر كان هذا حماية لهذه الحلقات من التوقف في المستقبل‏.‏

بعد ذلك على الطالب أن يهتم بالسنة؛ لأنها هي مصدر التشريع الثاني، ولا أقول الثاني بالترتيب المعنوي، لكن بالترتيب الذكري؛ لأن ما ثبت في السنة كما ثبت في القرآن سواء بسواء؛ لأن الله تعالى يقول‏:‏‏{‏ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ من الآية113‏]‏‏.‏ فليحفظ السنة، ومن الكتب المختصرة في السنة ‏"‏عمدة الأحكام‏"‏ وهي أيضًا موثوقة؛ لأن جامعها ـ رحمه الله ـ جمع فيها ما اتفق البخاري ومسلم على إخراجه، ولم يشذ عن هذا القيد إلا في أحاديث يسيرة، وإذا ترقى الإنسان شيئًا ما فليحفظ ‏"‏بلوغ المرام‏"‏ وهو من أحسن ما ألف في الحديث؛ لأنه ذكر الحديث ويذكر مرتبته فيعطي الإنسان قوة وقدرة على معرفة مرتبة الحديث؛ لأن الحديث ليس كالقرآن، فالقرآن لا يحتاج إلى البحث في سنده؛ لأنه ثابت متواتر، أما السنة فلا يتم الاستدلال بها إلا بأمرين‏:‏ الأول‏:‏ صحة الحديث، الثاني‏:‏ دلالة الحديث على الحكم المطلوب‏.‏ ولهذا إذا قال لك إنسان هذا حرام والدليل قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كذا وكذا، فعليك أن تطالبه بصحة النقل؛ لأن هناك أحاديث ضعيفة، وأحاديث مكذوبة على الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ مثل‏:‏ ‏(‏حب الوطن من الإيمان‏)‏ ‏[‏أنظر الدرر المنتثرة للسيوطي، ص110، وكشف الخفاء 1/325، والأسرار المرفوعة ص189‏.‏‏]‏ ‏.‏

* * *

115ـ وسئل فضيلته ـ وفقه الله تعالى ـ‏:‏ هل يجوز لإنسان أن يجتهد في إفتاء بعض الناس إذا كان لا يوجد من يفتي أو لم يتيسر سؤال العلماء‏؟‏

فأجاب فضيلته بقوله‏:‏ إذا كان جاهلًا فكيف يجتهد‏؟‏ وعلى أي أساس ينبي اجتهاده‏؟‏‏!‏ والواجب على من لا يعلم الحكم أن يتوقف، وإذا سئل يقول‏:‏ لا علم عندي، فالملائكة لما قال الله ـ عز وجل ـ لهم ‏{‏أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ من الآية31‏]‏ ‏{‏قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏32‏]‏ أما كونه يقول إذا لم يجد عامًا يفتي أنا أفتي صواب أم خطأ فهذا خطأ ولا يجوز، فالجواب أن يقول للمستفتي‏:‏ اسأل العلماء، والآن ولله الحمد الاتصالات سهلة يتصل عن طريق الهاتف أو البريد السريع أو البطيء‏.‏

* * *

116ـ وسئل فضيلة الشيخ ـ وفقه الله تعالى ـ‏:‏ يقع من بعض الناس ـ هداهم الله تعالى ـ التقليل من شأن العلماء بدعوى عدم فقه الواقع فما توجيه سماحتكم جزاكم الله خيرًا ووفقكم لما يحبه ويرضاه‏؟‏

فأجاب فضيلته بقوله‏:‏ لا شك أن فقه الواقع أمر مطلوب، وأن الإنسان لا ينبغي أن يكون في عزلة عما يقع حوله وفي بلده، بل لابد أن يفقه لكن لا ينبغي بأي حال من الأحوال أن يكون الاشتغال بفقه الواقع مشغلًا عن فقه الشريعة والدين الذي قال فيه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين‏)‏ ‏[‏تقدم تخريجه صلى الله عليه وسلم ص13 ‏.‏‏]‏، لم يقل يفقهه في الواقع، فإذا كان عند الإنسان علم بما يقع حوله لكنه قد صرف جهده وجل أمره إلى الفقه في دين الله، فهذا طيب، أما أن ينشغل بالواقع والتفقه فيه ـ كما زعم ـ والاستنتاجات التي يخالفها ما يقع فيما بعد؛ لأن كثيرًا من المشتغلين بفقه الواقع يقدمون حسب ما تمليه عليهم مخيلتهم، ويقدرون أشياء يتبين أن الواقع بخلافها، فإذا كان فقه الواقع لا يشغله عن فقه الدين، فلا بأس به، لكن لا يعني ذلك أن نقلل من شأن علماء يشهد لهم بالخير وبالعلم وبالصلاح لكنهم يخفى عليهم بعض الواقع، فإن هذا غلط عظيم، فعلماء الشريعة أنفع للمجتمع من علماء فقه الواقع، ولهذا تجد بعض العلماء الذين عندهم اشتغال كثير في فقه الواقع وانشغال عن فقه الدين لو سألتهم عن أدنى مسألة في دين الله ـ عز وجل ـ لوقفوا حيارى أو تكلموا بلا علم، يتخبطون تخبطًا عشوائيًا، والتقليل من شأن العلماء الراسخين في العلم المعروفين بالإيمان والعلم الراسخ جناية، ليس على هؤلاء العلماء بأشخاصهم، بل على ما يحملونه من شريعة الله تعالى، ومن المعلوم أنه إذا قلت هيبة العلماء وقلت قيمتهم في المجتمع فسوف يقل بالتبع الأخذ عنهم، وحينئذ تضيع الشريعة التي يحملونها أو بعضها، ويكون في هذا جناية عظيمة على الإسلام وعلى المسلمين أيضًا‏.‏

والذي أرى أنه ينبغي أن يكون عند الإنسان اجتهاد بالغ، ويصرف أكبر همه في الفقه في دين الله ـ عز وجل ـ حتى يكون ممن أراد الله بهم خيرًا، وإلا ينسى نفسه من فقه الواقع، وأن يعرف ما حوله من الأمور التي يعملها أعداء الإسلام للإسلام‏.‏

ومع ذلك أكرر أنه لا ينبغي للإنسان أن يصرف جل همه ووقته للبحث عن الواقع بل أهم شيء أن يفقه في دين الله ـ عز وجل ـ وأن يفقه من الواقع ما يحتاج إلى معرفته فقط وكما أشرت سابقًا في أول الجواب ـ أن من فقهاء الواقع من أخطأوا في ظنهم وتقديراتهم وصار المستقبل على خلاف ما ظنوا تمامًا‏.‏

لكن هم يقدرون ثم يبنون الأحكام على ما يقدرونه فيحصل بذلك الخطأ، وأنا أكرر أنه لابد أن يكون الفقيه بدين الله عنده شيء من فقه أحوال الناس وواقعهم حتى يمكن أن يطبق الأحكام الشرعية على مقتضى ما فهم من أحوال الناس، ولهذا ذكر العلماء في باب القضاء‏:‏ أن من صفات القاضي أن يكون عارفًا بأحوال الناس ومصطلحاتهم في كلامهم وأفعالهم‏.‏

* * *

117ـ وسئل فضيلة الشيخ ـ أعلى الله درجته في المهديين ـ‏:‏ نحن طلبة نتلقى العلم، وندرس العقيدة على معلمين يدرسونا العقيدة الأشعرية، ويفسرون يد الله تعالى بقدرته أو نعمته واستواءه على عرشه بالاستيلاء عليه ونحو ذلك، فما حكم الدراسة على هؤلاء المعلمين‏.‏

فأجاب فضيلته بقوله‏:‏ هؤلاء الذين يفسرون القرآن بهذا التفسير سواء سميناهم أشعرية أو غير هذا الاسم، لا شك أنهم أخطئوا طريقة السلف الصالح‏.‏ فإن السلف الصالح لم يرد عنهم حرف واحد فيما ذهب إليه هؤلاء المتأولون، فليأتوا بحرف واحد عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو عن أبي بكر، أو عمر، أو عثمان، أو علي، أنهم أولوا اليد بالقدرة أو بالقوة أو أولوا الاستواء بالاستيلاء، أو أولوا الوجه بالثوب، أو أولوا المحبة بالثواب أو بغير الثواب، ليأتوا بحرف واحد عن هؤلاء أنهم فسروا هذه الآيات وأمثالها بما فسرَّ به هؤلاء، فإذا لم يأتوا فيقال‏:‏ إما أن يكون السلف الصالح وعلى رأسهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو إمام المتقين عليه الصلاة والسلام إما أن يكونوا على جهل بمعاني هذه العقيدة العظيمة، وإما أن يكونوا على علم، ولكن كتموا الحق وكلا الأمرين لا يمكن أن يوصف به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا أحد من خلفائه الراشدين ولا من صحابته المرضيين، فإذا كان ذلك لا يمكن في هؤلاء وجب أن نسير على هديهم‏.‏

وأن نصيحتي لهؤلاء أن يتقوا الله عز وجل، وأن يدعوا قول فلان وفلان وأن يرجعوا إلى كتاب الله وسنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسنة الخلفاء الراشدين من بعده وأن يعلموا أن لهم مرجعًا يرجعون إلى الله تعالى فيه، ولا يمكن أن يكون لهم حجة فيما قال فلان وفلان، والله إنهم لن يغنوا عنهم من الله شيئًا، إن الله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏65‏]‏ ولم يقل‏:‏ ويوم يناديهم فيقول‏:‏ ماذا أجبتم فلان وفلان وإن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه العظيم ‏{‏فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ من الآية158‏]‏‏.‏ فأمر بالإيمان به واتباعه وإذا كان كذلك فهل يمكن أن يكون الإنسان مؤمنًا بالله ورسوله تمام الإيمان ثم يعدل عن سنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في عقيدته بربه ويحرف ما وصف الله به نفسه في كتاب أو وصفه به رسوله الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمجرد وهميات يدعونها عقليات‏.‏

إنني أنصحهم أن يرجعوا إلى الله ـ عز وجل ـ وأن يدعوا كل قول، لقول الله ورسوله فإنهم إن ماتوا على ذلك ماتوا على خير وحق وإن خالفوا ذلك فهم على خطر عظيم، ولن يغنوا عنهم من الله شيئًا، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏111‏]‏‏.‏

أكرر النصيحة لكل مؤمن أن يرجع إلى كتاب الله وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما يعتقده بربه ومعبوده ـ جل وعلا ـ وفيما يعتقده في الخلفاء الراشدين المهديين من بعده، وفيما كان عليه أئمة المسلمين الذين قادوا الناس بسنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ دون التحكم إلى العقول التي هي وهميات في الحقيقة فيما يتعلق بالله تعالى وأسمائه وصفاته‏.‏ ولقد أجاد شيخ الإسلام ابن تيمية حق الإجادة في قوله عن أهل الكلام‏:‏ ‏(‏إنهم أوتوا فهومًا ولم يؤتوا علومًا، وأتوا ذكاء ولم يؤتوا زكاء‏)‏ فعلى الإنسان أن يوسع مداركه في العلوم المبنية على كتاب الله وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأن يزكي نفسه باتباع كتاب الله وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏.‏ أسأل الله تعالى أن يتوفانا جميعًا على الإيمان، وأن نلقاه وهو راضٍ عنا إنه على كل شيء قدير، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين‏.‏

وإني أدعوكم يا طلبة العلم أن تدعو إخوانكم إلى ما سمعتم، فإن والله هو الحق، ومن اطلع على حق سواه فإننا له قابلون وبه مستمسكون‏.‏ أملاه محمد الصالح العثيمين‏.‏

* * *

118ـ وسئل فضيلة الشيخ ـ جزاه الله خيرًا ـ‏:‏ كثيرًا ما يشاع بأن الفتوى تتغير بتغير الزمان أو المكان، مثل‏:‏ المذياع في أول ظهوره حرمه البعض، فنرجو من سماحتكم بيان الحق في هذه المسألة‏؟‏ والله يحفظكم ويرعاكم‏.‏

فأجاب فضيلته بقوله‏:‏ الفتوى في الحقيقة لا تتغير بتغير الزمان، ولا بتغير المكان، ولا بتغير الأشخاص‏.‏

ولكن الحكم الشرعي إذا عُلِّق بعلة فإنه إذا وجدت فيه العلة ثبت الحكم الشرعي، وإذا لم توجد لم يثبت الحكم الشرعي، وقد يرى المفتي أن يمنع الناس من شيء أحله الله لهم لما يترتب على فعل الناس له من المحرم كما فعل عمر ـ رضي الله عنه ـ في الطلاق الثلاث حين رأى الناس تتايعوا فيها فألزمهم بها، وكان الطلاق الثلاث في عهد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعهد أبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فلما رأى عمر الناس تتايعوا في هذا ألزمهم بالثلاث ومنعهم من الرجوع إلى زوجاتهم ‏[‏تقدم تخريجه‏]‏‏.‏

وكذلك ما حصل في عقوبة شارب الخمر كانت العقوبة في عهد النبي عليه الصلاة والسلام وعهد أبي بكر لا تزيد على أربعين جلدة، ثم إن الناس كثر شربهم الخمر فاستشار عمر الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ فأشروا بأن يجعل العقوبة ثمانين جلدة ‏[‏تقدم تخريجه‏]‏‏.‏

فالأحكام الشرعية لا يمكن أن يتلاعب بها الناس كلما شاءوا حرموا وكلما شاءوا أوجبوا، وإنما يرجع إلى العلل الشرعية التي تقتضي الوجوب أو عدمه وأما بالنسبة للمذياع‏:‏ فلم يقل أحد بتحريمه من علماء التحقيق، وإنما قال بتحريمه أناس جهلوا حقيقة الأمر، وإلا فإن العلماء المحققين، وأخص منهم شيخانا عبد الرحمن بن سعدي ـ رحمه الله ـ لم يروا أن هذا من المحرمات بل رأوا أن هذا من الأشياء التي علّمها الله ـ عز وجل ـ الخلق، وقد تكون نافعة، وقد تكون ضارة بحسب ما فيها، وكذلك مكبر الصوت ـ المكرفون ـ أيضًا أنكره بعض الناس أول ما ظهر لكن بدون تحقيق، وأما المحققون فلم ينكروه، بل رأوا أنه من نعمة الله عز وجل ـ أن يسر لهم ما يوصلوا خطبهم ومواعظهم إلى البعيدين‏.‏

* * *

119ـ وسئل فضيلة الشيخ ـ وفقه الله تعالى ـ‏:‏ ما نصيحتكم لطلبة العلم حول دعوة الناس وتعليمهم العلم الشرعي؛ لأنه قد يوجد من بعضهم ـ هداهم الله تعالى ـ شيء من الغلظة والشدة في التعامل، نرجو التوجيه والإرشاد، سدد الله خطاكم ووفقكم لما يحبه ويرضاه‏؟‏

فأجاب فضيلته بقوله‏:‏ الذي تدل عليه السنة المطهرة، سنة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن الواجب على الإنسان أن يدعوا إلى الله تعالى بالحكمة وباللين وبالتيسير فقد قال الله تعالى لنبيه محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ‏{‏ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ من الآية125‏]‏ وقال الله تعالى له‏:‏ ‏{‏فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏159‏]‏ وقال الله تعالى حين أرسل موسى وهارون إلى فرعون ‏{‏فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى‏}‏ ‏[‏طـه‏:‏44‏]‏

وأخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ‏(‏أن الله يعطي بالرفق ما لا يُعطى بالعنف‏)‏‏.‏ وكان يقول إذا بعث بعثًا‏:‏ ‏(‏يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين‏(‏ ‏[‏رواه مسلم‏]‏‏.‏

وهكذا ينبغي على الداعية أن يكون لينًا طليق الوجه منشرح الصدر حتى يكون ذلك أدعى لقبول صاحبه الذي يدعوه إلى الله‏.‏

ويجب أن تكون دعوته إلى الله ـ عز وجل ـ لا إلى نفسه، ليحب الانتصار أو الانتقام ممن خالف السبيل؛ لأنه إذا دعا إلى الله وحده صار بذلك مخلصًا ويسر الله له الأمر وهدى على يديه من شاء من عباده، لكن إذا كان يدعو لنفسه كأنه يريد أن ينتصر لها، وكأنه يشعر بأن هذا عدو له يريد أن ينتقم منه، فإن الدعوة ستكون ناقصة وربما تنزع بركتها‏.‏

فنصيحتي لإخواني طلبة العلم أن يشعروا هذا الشعور، أي أنهم يدعون الخلق رحمة بالخلق وتعظيمًا لدين الله ـ عز وجل ـ ونصرة له‏.‏

وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه، وهدانا إلى صراطه المستقيم‏.‏

* * *

 رسالة

من محمد الصالح العثيمين إلى أخيه المكرم ‏.‏ ‏.‏ ‏.‏

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته‏.‏

جوابًا لكتابكم ذي الرقم ‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ والتاريخ 24ـ 25/9/1409هـ‏.‏

عليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وأسأل الله تعالى أن يحبك كما أحببتني فيه وأن يجعلنا جميعًا من دعاة الحق وأنصاره، ويوفقنا للصواب في الاعتقاد والقول والعمل‏.‏

ثم إن كتابكم المذكور تضمن ثلاث مسائل‏:‏

المسألة الأولى‏:‏ إذا تبين لكم رجحان قول كنتم تفتون أو تحكمون بخلافه فهل يجوز لكم الرجوع فيما أفتيتم به أو حكمتم‏.‏

المسألة الثانية‏:‏ إذا تبين لكم رجحان قول كنتم تفتون أو تحكمون بخلافه فهل يجوز لكم مستقبلًا أن تفتوا أو تحكموا بما تبين لكم رجحانه‏.‏

المسألة الثالثة‏:‏ هل يجوز للإنسان في مسائل الخلاف أن يفتي لشخص بأحد القولين ولشخ آخر بالقول الثاني‏.‏

والجواب على هذه المسائل العظيمة بعون الله وتوفيقه أن نقول مستمدين من الله تعالى الهداية والصواب‏.‏

أما المسألة الأولى‏:‏

فمتى تبين للإنسان ضعف ما كان عليه من الرأي وأن الصواب في غيره وجب عليه الرجوع عن رأيه الأول إلى ما يراه صوابًا بمقتضى الدليل الصحيح، وقد دل على وجوب الرجوع كتاب الله تعالى وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقول الخلفاء الراشدين وإجماع المسلمين وعمل الأئمة‏.‏

أما كتاب الله تعالى‏:‏ فمن أدلته قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏10‏]‏ فمتى كان الحكم في مسائل الخلاف إلى الله وجب الرجوع فيها إلى ما دل عليه كتاب الله‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ من الآية59‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏115‏]‏

ومن سبيل المؤمنين الرجوع إلى ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ

وأما السنة‏:‏ فمن أدلتها قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏إنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهدين من بعدي‏)‏ ‏.‏

والأحاديث في هذا المعنى كثيرة‏.‏

وأما أقوال الخلفاء الراشدين‏:‏ فمن أشهرها قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ في المشركة وهي زوج وأم وإخوة لأم وإخوة أشقاء حيث من الإخوة الأشقاء من الميراث لكونها عصبة، وقد استغرقت الفروض التركة ثم قضى بعد ذلك بتشريكهم مع الإخوة لأم، فقال له رجل‏:‏ قد قضيت في هذا عام الأول بغير هذا، فقال‏:‏ وكيف قضيت‏؟‏ قال‏:‏ جعلته للإخوة للأم ولم تجعل للإخوة من الأب والأم شيئًا، قال عمر‏:‏ ذلك على ما قضينا وهذا على ما نقضي‏.‏ أخرجه ابن أبي شيبة11/253، وقال ـ رضي الله عنه ـ في كتابه لأبي موسى في القضاء‏:‏ لا يمنعك قضاء قضيت فيه اليوم فراجعت فيه رأيك فهديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحق، فإن مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل‏.‏

وأما الإجماع‏:‏ فقال الشافعي ـ رحمه الله ـ‏:‏ أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس‏.‏

وأما عمل الأئمة‏:‏ فها هو الإمام أحمد يقول القول ويقول بخلافه، فتارة يصرح بالرجوع كما صرح بالرجوع عن القول بوقوع طلاق السكران، وتارة يصرح أصحابه برجوعه عنه كما صرح الخلال برجوع الإمام عن قوله فيمن ابتدأ مسح خفيه مقيمًا ثم سافر أنه يتم مسح مقيم إلى القول بأن يتم مسح مسافر، وتارة لا يصرح ولا يصرح عنه برجوع فيكون له في المسألة قولان‏.‏

والمهم أنه متى تبين للإنسان ضعف رأيه الأول وجب عليه الرجوع عنه ولكن يسوغ له نقض حكمه الأول ولا يلزمه إخبار المستفتي بالرجوع؛ لأن كلا من الرأيين الأول والثاني صادر عن اجتهاد، والاجتهاد لا ينقض بمثله وظهور خطأ اجتهاده الأول لا يمنع احتمال خطئه في الثاني، فقد يكون الاجتهاد الأول هو الصواب في الواقع، وإن ظهر له خلافه؛ لأن الإنسان غير معصوم في اجتهاده لا الثاني ولا الأول‏.‏

وأما المسألة الثانية‏:‏

فجوابها يعلم من جواب المسألة الأولى وهو أنه يجب على الإنسان الرجوع إلى ما تبين له أنه الصواب، وإن كان يفتي أو يحكم بخلافه سابقًا‏.‏

وأما المسألة الثالثة‏:‏

فإن كان في المسألة نص، كان الناس فيها سواء، ولا يفرق فيها بين شخص وآخر، وأما المسائل الاجتهادية فإنها مبنية على الاجتهاد، وإن كان الاجتهاد فيها في الحكم كذلك في محله، ولهذا لما رأى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه أن الناس كثر شربهم الخمر زادهم في عقوبتها ولما رآهم تتايعوا في الطلاق الثلاث أمضاه عليهم، ولهذا ما يؤيده من كلام الله تعالى وما جاءت به السنة ففي كتاب الله تعالى يقول جل ذكره‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏146‏]‏ فعاملهم الله بما تقتضيه حالهم وحرم عليهم هذه الطيبات ببغيهم وظلمهم‏:‏ ‏{‏فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏160‏]‏ ‏.‏وفي السنة جاء قتل شارب الخمر في الرابعة إذا تكررت عقوبته ثلاثًا ولم يقلع، مع أن عقوبة شارب الخمر في الأصل لا تبلغ القتل‏.‏

فإذا كانت حال المستفتي أو المحكوم عليه تقتضي أن يعامل معاملة خاصة عومل بمقتضاه ما لم يخالف النص‏.‏

وكذلك إذا كان الأمر قد وقع وكان في إفتائه بأحد القولين مشقة وأفتى بالقول الثاني فلا حرج مثل أن يطوف في الحج أو العمرة بغير وضوء ويشق عليه إعادة الطواف لكونه نزح عن مكة أو لغير ذلك فيفتي بصحة الطواف بناء على القول بعدم اشتراط الوضوء فيه‏.‏ وكان شيخنا عبد الرحمن بن سعدي ـ رحمه الله ـ يفعل ذلك أحيانًا ويقول لي‏:‏ هناك فرق بين من فعل ومن سيفعل وبين ما وقع وما لم يقع‏.‏

وفي مقدمات ‏(‏المجموع‏)‏ للنووي ـ رحمه الله ـ 1/88 ط المكتبة العالمية‏:‏ قال الصيمري‏:‏ إذا رأى المفتي المصلحة أن يفتي العامل بما فيه تغليظ وهو مما لا يعتقد ظاهره وله فيه تأويل جاز ذلك زجرًا له كما روى عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أنه سئل عن توبة القاتل فقال‏:‏ لا توبة له، وسأله آخر فقال‏:‏ له توبة، ثم قال‏:‏ أما الأول فرأيت في عينه إرادة القتل فمنعته، وأما الثاني فجاء مستكينًا قد قتل فلم أقنطه‏.‏

وهذا الذي ذكرناه لا يكون مطردًا في كل صورة فلو أراد قاض أو مفت أن يأخذ في ميراث الإخوة مع الجد بقول من يرى توريثهم إذا رأى أنهم فقراء وأن التركة كثيرة وبقول من لا يرى توريثهم إذا كان المال قليلًا وهم أغنياء لم يكن ذلك سائغًا؛ لأن في هذا إسقاط لحق الغير لمصلحة الآخرين بلا موجب شرعي‏.‏

هذا والله أسال أن يلهمنا جميعًا الصواب في القول والعمل والاعتقاد